الكتابة الساخرة والحقيقة

يقول هرمان بروخ الروائي النمساوي “فضيلة الكاتب الوحيدة هي المعرفة”. كنت أتساءل ما معنى أن تكون كاتباً؟ وما معنى الكتابة التي تجعلنا بشراً ضاجين بالحياة، وما هيتها، وكأنها فن الانتقال بين الذات والآخرين، بين الذات والمجتمع، فالكاتب لديه نقاط قوة كثيرة لأنه منغمس في مشكلات مجتمعه وقضاياه لذلك لا يستطيع انتزاع نفسه من محيطه ولكنه قد يكون أحياناً الأقدر على الخوض في تفاصيل لا يتطرق إليها أحد، ولدية حاجة إلى أن يكتب عمّا لم يكن يقال؟ وأحد دوافعه واستمراريته يجب أن يكون الاعتراف بالاختلاف، فالكاتب الحقيقي يجب ألا يكون انتقائياً بل يجب أن يُجبر نفسه على فهم كل ما حوله ويتفادى إصدار الأحكام، فلا يجب أن يكون قاضياً، بل يجب أن يكون مبدعاً ويُعين على الإبداع، وهذه قد يراها البعض مبالغة، في الواقع ثمة صعوبة بالغة في التخلّص من الأحكام المسبقة، ولكن التعود على التأني والتفكير قبل الحكم على الآخر حتماً سيكون عاملاً مساعداً في الابتعاد عن جاهزية الأحكام. والحقيقة أن الكاتب ليس ملزماً ببناء العالم وإصلاح ما تهدم منه، ولكنه ملزم بالبحث عن الحقيقة. وليست الكتابة كلها جادة، فهناك الكتابة الساخرة التي تجذب المتلقي بكل بساطة واحتلت مكانها في الأدب فلها فتنتها التي لا تقاوم فهي تأتي بسيطة سهلة ومخلصة للفكرة، لأنها تعتمد على المفارقة وتصوير الحقيقة على شكل كوميديا مريرة تضحك وتبكي بنفس الوقت، والواقع أن روح الكتابة الساخرة لم يكن وليد اليوم ففي نهاية القرن الهجري الثاني كان “عمرو بن بحر الجاحظ”، من الكتاب الذين كانوا مدرسة في الكوميديا حيث وصفه معاصروه أنه طريف في مخبره ومنظره وحديثه ومؤلفه، فقد كان أسلوبه ساخراً في الكتابة، ولا أدل على ذلك إلاّ كتابه (رسالة التربيع والتدوير) و(البخلاء). كذلك لا يمكن أن أتخطى الكاتب الروسي الساخر والذي يسمى بفنان الشعب ميخائيل جفانيتسكي كان يمتلك روحاً فكاهية عالية بجانب الحكمة حتى أصبحت كتاباته أمثالاً تجري على ألسنة الناس. وفي مصر كان محمد عبدالقادر المازني في مجموعاته القصصية، كذلك محمد مستجاب الذي أسس مشروعاً أدبياً قائماً على السخرية، وتوليد المفارقة بين الأحداث، حيث السخرية تخفف من حدة الواقع وصعوبة الحقائق، وقد يعتقد البعض أن الكتابة الساخرة هي لإضحاك الآخرين، والحقيقة أنها عرض الحقيقة بشكل آخر كإسقاطات تضخ الحقائق بشكل مضحك، وهو نوع من الأدب المعقد القريب من قلوب الناس، فالقراء أصابهم الملل من ضخ الحقائق بقسوة تفوق قسوة الواقع، وقد آن الأوان عزيزي القارئ أن تبحث لك عن قلم ساخر يلطف يومك.

جريدة الرياض

0 0 votes
Article Rating
الإشتراك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
للأعلى