تأخذنا الأيام والشهور والسنين ولا ننتبه، نمر بلحظة وكأن الألم والحزن والسعادة المطلقة التي أحسسنا بها ذات يوم لم تمر علينا قط، أتساءل ما الذي يبقى فعلاً مع الإنسان في لحظات صفائه؟ وعطفاً على لحظات الصفاء أخذت إجازة من الكتابة لمدة ثلاثة أسابيع، وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة آخذ إجازة عن كتابة المقال وأبتعد عن عمودي الأسبوعي “ضلع أعوج”، كان طعم التوقف عن كتابة المقال لثلاثة أسابيع مختلفاً، أحسست وكأن شيئاً ينقصني، وبالمقابل غمرني إحساس بالراحة والهدوء قليلاً، جربت أن يصمت عقلي وتنام أفكاري ولو لفترة بسيطة، ابتعدت قليلاً عن عالم القراءة والكتب والأفكار إلا أن الصمت كان وسيلة أخرى للتعبير، تبادر إلى ذهني سؤال وهو كيف نحظَى بروح الصمت؟ وماذا يعني الصمت؟ يرى بعض فقهاء اللغة دلالة للصمت؛ فهو عندهم “فعل إرادي” لأنه يمثل المدخل إلى وعينا بالطرق الجديدة للكينونة، فالصمت يتدارك جهلنا أقل مما يشفينا من تبجحنا، وهنا لن أضع رأيي من المنظور الأفلاطوني حيث يختلط الجميل مع الحقيقي والخير مع العدل، إلا أن الصمت ينتمي دائماً إلى العالم المشترك للبشر، ولو تأملنا في الفلسفة البوذية التي تجعل من الصمت رياضة للذهن ومصفاة للنفس ونافذة للتأمل سنجدها نوعاً من أنواع التشافي والتصالح مع الحياة، ويعتبره المتصوفون مقاماً روحياً يطهر النفس ويزيد من سموها عند الخالق. كذلك الفلاسفة كانت لهم وقفة مع فلسفة الصمت حيث الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر وحواره الوجودي عن حديث الأنا للذات الصامتة وكلام الأنا مع الآخر للتعبير عن وجود الأنا الحرة الواعية. ولا نستثني فلاسفة الجمال حيث يرون أن الصمت من أرقى صور الجمال ويفسرون اللحظات الصامتة في الأعمال الموسيقية والسكتات الإيقاعية والفراغات في اللوحات التشكيلية وغيرها بأنها جميعها تعبر عن فلسفة الصمت وجمالياته. وهذا يقودنا إلى التعرف على أنفسنا أكثر لتحديد هوية أي عمل نقوم به، فـالأوقات التي تحظى بالصمت والتأمل هي التي تصنع التغيير على المستوى النفسي والعقلي، والتغيير لا يأتي إلا برغبة داخلية حقيقية وبعد فترة من الصمت والابتعاد عن ضجيج الحياة ودوامتها التي تأخذنا أحياناً دون هدف، وما نحتاجه فعلاً هو مساحة نتوقف فيها عن اللهاث والعدو المستمر لنتبين احتياجاتنا الفعلية، وماذا نريد، وما نحب، لتكون لنا فرصة للقفز لمستويات من التغيير لا نحلم بها.