أول المبتدأ يكون ما نفكر به وما نحبه، هكذا هي الحياة التي نرتجيها، كل شيء حولنا عبارة عن ضجيج وغير حقيقي إلا نحن، وعندما انعزلنا في منازلنا ضاقت بنا جدران أيامنا واتسعت بالذكريات، والوقت يقضم ما تبقى من أعمارنا، وداخل زمن قلق وطويل كانت هذه الجدران كعدسة مكبرة لذواتنا ودواخلنا جعلتنا نكتشف من نحن ومن نريد، وهل فعلياً نحن بحاجة لكل هؤلاء الناس المحيطين بنا؟ لكل تلك العلاقات الكثيرة التي تأخذ من وقتنا دون فائدة والتي أكاد أجزم أن أغلبها علاقات سامة وسلبية، أعتقد أن الكثير من الناس تساءلوا نفس هذا التساؤل، والواقع أنه كأننا في حضرة كرة من اللهب من مواجهة الذات وتعريتها، وكأننا نتلمس ملامح النفس وما تحتاجه، ومن يتتبع وسائل التواصل الاجتماعي سيجد أنها كانت الملاذ والمهرب للكثير ممن لم يتعودوا أن يواجهوا أنفسهم ويجلسوا معها، ممن لم يتعرفوا على ذواتهم، كانت منصات وسائل التواصل الاجتماعي منصة من لا منصة له، ظهور بلا جمهور أمامك يناكفك، يصفق لك، ويرد عليك، وكأنها حفلة زيف أو نفاق اجتماعي، تجعلك تنتشي من لا شيء في ذلك العالم الافتراضي الذي أصبح إنجاز من لا إنجاز له، كان الواقع يمد لسانه هازئاً بنا وكأنه يستعجب من حب البشر للظهور ومن خوفهم من العيش بظلال أرواحهم دون طلب لفت الانتباه من الجميع، وكأنه يقول ارتاحوا قليلاً من هذا اللهاث، واستفيدوا من هذه الفرصة الكبيرة في الاختباء من كل شيء وجرب أن تتحرر من هذه الفوضى الافتراضية المزعجة فلم ولن يجبرك شيء على الظهور!
أتفهم أن مواجهة الذات صعبة جداً، ومن جرب التصالح مع ذاته ومعرفتها سيجد أن ذاته صديق مخلص وكلما واجهها ارتفع منسوب مقاومة الخوف والحرية النفسية التي هي رأس القيم العليا، هذا التكيف مع الذات يصبح مع مضي الوقت واكتساب الخبرات سلوك مقاوم من أجل التحرر من كل شيء يعيق نمونا وتقدمنا. أيضاً هل فكرت في أيامنا هذه المتواترة والمتوترة في أن تختار أيامك ذكرياتك هويتك نفسك والأهم مع من تعيش؟ فالأيام لا تفصح عن وجوه الرتابة والملل إلا بعد أن نكررها ونفكر بها فالإنسان كائن اجتماعي سهل التكيف في جميع الظروف لذلك كثير ما يمر علينا أوقات دون أن نفكر بها، وإذا نظرنا بعين يقظه بعيداً عن ألاعيب العقل اللا واعي الذي غالباً ما يدجن أفكارنا وأرواحنا، نجد أننا لم نفتقد شيئاً كبيراً وخاصة في علاقاتنا الاجتماعية التي كانت ترهقنا وتثقل كاهلنا دون فائدة، لذلك بالنظر لعلاقاتنا أجد أنه بعد الحجر المنزلي نكتشف أننا نستطيع أن نعيش دون الآخر الذي غالباً ما نتحرك من أجله ونقيم حياتنا من خلاله، الآن هو رقم خامل فقط في حياتنا التي يجب أن تكون بكاملها لنا دون تدخلات.