يبدو الأديب العربي اليوم أمام واقع متشابك للغاية، وبالتالي فإن تفكيك قضاياه النفسية والاجتماعية والفكرية والسياسية وغيرها ليست بالأمر السهل، هذا علاوة على انتشار التكنولوجيا والمجتمع الرقمي الموازي الذي بات يتحكم في الواقع، حيث أن جزءا كبيرا من تلك القضايا حاولت رواية “فلوزاك” الإحاطة بها. “العرب” كان لها هذا الحوار مع كاتبتها السعودية زينب الخضيري، حول رؤاها الأدبية والفكرية.
تأثرت المجتمعات كافة بسطوة مواقع التواصل الاجتماعي، وما خلقته من عالم افتراضي بات موازيا، بل وأكثر طغيانا على عالمنا الواقعي. وقد امتد ذلك التأثير إلى مناح شتى من الحياة اليومية للناس، وطال كافة الطبقات، ووصل إلى الأزقة والنجوع الصغيرة في القرى، في كل البلاد وكل القارات.
وكانت الروائية السعودية الدكتورة زينب الخضيري من أوائل من تنبهوا لذلك، وتناولته في أعمالها الأدبية، حيث تطرقت في روايتها “فلوزاك” إلى أثر وسائل التواصل الاجتماعي وما أحدثه انتشار شبكة الإنترنت في أنفسنا من ارتجاجات.
هنا، تُحدثنا الدكتورة زينب الخضيري عن عوالم تلك الرواية المليئة بالأقنعة التي خبأتها وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف يمكن أن تحدث هذه الازدواجية فينا.
الرواية والتكنولوجيا
تقول الخضيري لـ”العرب”، “في هذه الرواية أحاول استجلاء جوانب من هوية الفعل الإنساني من خلال التواصل الصامت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هذه التجربة تنتسب إلى الأقاصي الموغلة في دواخل النفس الإنسانية والاهتداء إلى عالمنا الداخلي الخفي الذي نخجل من إظهاره بفعل أسباب كثيرة. حاولت أن أكتب عن ذلك الإنسان الذي يحاول ألا يرتبط بواقعة ويرفضه ويتعالى عليه فيهرب إلى عالم آخر حُرّ بالنسبة إليه يبني نفسه ومشاعره وحياته كما يتمنى، يحرر نفسه من تطويق تجربة الواقع فيتحصن باللاواقع. هنا نستنبط أسئلة لتأويل الإمكان لإبراز رهانات النفس البشرية المليئة بالوعورة.”
وحول ما يرمز له عنوان الرواية، تبين الكاتبة أن “فلوزاك” التي تخوض في عوالم النفس البشرية الموغلة بالغرابة وشديدة الاختلاف، وما تعيشه من صراعات يومية على مستوى العقل والنفس مما يصيبها بالارتباك والاكتئاب والتشتت، فتلجأ إلى العلاج النهائي بالعقاقير التي تسكن الألم فقط، ولا تحل المشكلة والصراع والتناقض الذي يحكم أفراد العائلة الواحدة، فتحاول حجب الأحاسيس والألم وتهدئتها بالأدوية كناية عن العلاج الدوائي، وكأن وسائل التواصل الاجتماعي علاج للهاربين من واقعهم.
وحول ما إذا كانت أحداث الرواية مُتخيلة، أم أنها فعلا تحدث الآن في دهاليز الإنترنت؟ تقول الخضيري “هي قصة متخيلة ودهاليز الإنترنت لعبت ومازالت تلعب أدوارا في حياتنا، كل يوم قصة جديدة، ووسائل التواصل الاجتماعي كانت ثورة وفتحا للتواصل مع الآخر، كما أنها منبر نقاش وحوار مباشر، وأداة من أدوات التواصل الفاعلة جدا، وأصبحت بالنسبة إلينا المكان المحبب للجميع، وحاليا أصبحت وسيلة إخبارية نعتمد عليها، فهناك شبكة علاقات بين المستخدمين بشكل متناغم وعجيب تقرأ من خلاله المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي. لذلك طبيعي أن تكون هناك قصص حب وزواج وصداقة تنشأ من العالم الافتراضي وتنتقل إلى العالم الواقعي.”
أما عن رؤيتها إن كانت رواية “فلوزاك” تنتمي إلى الأدب الرقمي أم لا؟ فتقول “لا أستطيع أن أطلق على ‘فلوزاك’ أنها من الأدب الرقمي لأن له مفاهيم كثيرة، وتعرفه فاطمة البريكي بأنه جنس أدبي جديد ولد في رحم التكنولوجيا، لذلك يوصف بالأدب التكنولوجي أو الأدب الإلكتروني، ويمكن أن نطلق عليه اسم ‘التكنو – أدبي’. ورأيي يتفق مع الدكتورة الناقدة زهور كرّام حيث ترى أنه ‘حالة تطويرية لمسار الأدب في علاقته بالوسيط التكنولوجي الذي يغير من طبيعة النص اللغوية وكذلك في مفاهيمه المتعلقة بمنتج النص ومتلقيه ومن ثم يؤسس لشكل أدبي مغاير تبعا لطبيعة اللغة الجديدة’. وبناء على ذلك لا أعتبر روايتي من صنف الأدب الرقمي.”
ولأن القاسم المشترك بين روايات الدكتورة زينب الخضيري هو الحب فقد سألناها لماذا الحب؟ لتجيبنا “مازال الصراع الأزلي بين العقل والعاطفة قائما، فالعقل لا يستطيع أن يُحسّ ويستشعر الجمال بالوجود، هو فقط مرشد مثل النجم القطبي في السماء، أو يعمل كناسخ ضوئي ينقل الصور إلى القلب فيستشعرها وينعم بجمالها، فدرجة الإحساس بجماليات المشاعر والإيمان بأهمية الحب تختلف من إنسان إلى آخر، ومن الظلم أن نتعامل مع أنفسنا بمنطق جامد صرف.”
وتضيف “قراءة الإنسان في عمقه الحقيقي مطلب وليس رفاهية للتعرف على توجهات بوصلته من أجل التعامل معها لنحسّن من طريقتنا في التعامل مع الحياة، والحب أحد أشكال العلاقات الإنسانية، وهو نابع من عمق الإنسان الحقيقي، وليس حالة عارضة أو وعكة صحية يمر بها الإنسان ويتعافى منها، هو حالة نفسية وعقلية تدوم معنا طوال حياتنا، ولكن بدرجات متفاوته، وهو في الحقيقة من خواص الإنسان الطبيعي ومن امتيازاته، حيث إن مشاعر الحب تبقى فوق القياس والتجربة، وبقدر حظ الإنسان من فطرته الأولى سيدرك الحب الحقيقي، فالحب هو إحياء للطفولة التي ماتت فينا بفعل طاحونة الحياة المعقدة التي دهستنا تحت عجلتها وأفقدتنا معنى أن نكون نحن.”
الأدب المعاصر
♦ “فلوزاك” رواية تستجلي جوانب من هوية الفعل الإنساني من خلال التواصل الصامت عبر وسائل التواصل الاجتماعي
حول رؤيتها لدور الرواية في حل مشكلات المجتمع تقول الكاتبة السعودية “إن دور الرواية هو أن تكون شاهدة على العصر، فمثلا في روايتي ‘على كف رتويت’ كتبت عن عالم التويتر كمرحلة نمر بها ومررنا بها وقضاياها ومشاكلها النفسية والاجتماعية، وهي عمل انطلق من ملاحظة مرحلة معينة في هذا العالم الموازي. أيضا هناك العديد من الروايات التي تكلمت عن قضايا كثيرة معاصرة فمثلا كتب عن أشخاص يعانون الشذوذ الجنسي والأمراض النفسية والقلق والاكتئاب وتمحورت هذه الروايات حول الذات الإنسانية والمشاكل الأخلاقية الاجتماعية.”
وتتابع الخضيري “أيضا اختلف تأثر الروايات بالواقع المعاصر وتحدياته تبعا لكل دولة حسب ما تشهده من تطورات ومتناقضات، ففي حين شاهدنا انفتاحا كبيرا في الرواية السعودية والإماراتية وظهور العامل النسائي وظهور الرومانسية المفرطة ومدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على المجتمع بشكل واضح، إضافة إلى دعوات الحرية والتحرر الديني وكثيرا ما كانت تواجه بالرفض. في حين انتقلت الرواية السورية المعاصرة لتجعل واقع الحرب والتهجير والشتات والوضع الاجتماعي والاقتصادي السيئ محورها الرئيسي. أما المغرب العربي فقد شهد نهضة كبيرة في مجال الرواية المعاصرة حيث ظهرت من خلالها آمال الشعب المغربي وأحلامه بالتخلص من العادات القديمة وسعيه نحو مجتمع وبلد أكثر حضارة وتطورا، ودائما ما كان يبحث الأدباء عن نهايات تحمل في طياتها الفرح بظهور نقلة نوعية واختلاف واضح بين ما يعيشه وما ينتظره من مستقبل أفضل.”
وحول قول البعض إن الدكتورة زينب الخضيري تكرر في رواياتها نموذج الأنثى الضعيفة والمستلبة، سألناها، أهذا صحيح؟ وهل تلجأين إلى هذا النموذج المتكرر لكونه نموذجا خصبا للكتابة السردية أم هي حالة فقط؟
♦ وسائل التواصل فيها شبكة علاقات بين المستخدمين بشكل عجيب تقرأ من خلالها المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي
ردت بقولها “هذا الاتهام عار من الحقيقة، ففي كل رواياتي المستهدف هو القضايا الإنسانية والقضايا التي نسمع بها أو نتعايش معها، وغالبا الإنسان وهويته التي تجسد المأزق الوجودي الداخلي له بكل مراحل عمره وليس المرأة فقط عبر شخوص الرواية، والمنشغلون بالبحث عن سر الحياة، فالبعض منهم سر الحياة متجسد باللاحب أو الاهتمام بالعائلة والمال، هذه الرغبات التي تتأجج في داخلهم وتتحول إلى رغبة بالصمت والعزلة والانسلاخ تماما عن المجتمع لأنهم يرونه قبيحا ومتطلبا، ويعبّر هذا الموقف عن عالمهم الداخلي المحتشد بآلام شتى وتشوهات بفعل البشر أدت بهم إلى فقدان التوازن، والنكوص إلى الداخل. وهذا لم يحدث بشكل مفاجئ أو بلا أسباب جوهرية، بل جاء تدريجيا ونتيجة لعوامل عدة جاءت من التربية والوعي وحصار المجتمع.”
وحول رؤيتها لما لشبكة الإنترنت من إيجابيات في المشهد الثقافي والأدبي، تقول الخضيري إن “وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في ظهور العديد من المواهب الشابة التي لم تكن تجد طريقا في السابق للظهور والانطلاق، إضافة إلى كونها أصبحت عنصرا أساسيا من عناصر حضور الأديب والمثقف وعرض إنتاجه الأدبي سواء من المخضرمين أو الراحلين، ولكن هل يتوقف أثرها على الأحداث أو ظهور المواهب؟ كلا لقد أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من التطورات حيث ربطت أصحاب الاهتمام ببعضهم البعض وكذلك ربطتهم بالمؤسسات الثقافية، ولا يمكن أن نتجاهل أبدا فضل وسائل التواصل الاجتماعي في إيصال صوت المثقف والمبدع ونشر إنتاجه بشكل كبير يصل إلى الجميع. أيضا اللقاءات الافتراضية والتي شجعت على القراءة والحوار والنقاش، ومن وجهة نظري إن الإيجابيات كثيرة جدا طغت على سلبياتها.”
يُذكر أن الروائية السعودية الدكتورة زينب الخضيري، هي مستشار ثقافي وأديبة وروائية وكاتبة في جريدة الرياض السعودية، عملت مستشارا ورئيسا لمبادرة التفرغ الثقافي بوزارة الثقافة السعودية، حاصلة على الدكتوراه في فلسفة الإدارة التربوية تخصص إدارة تعليم عال من جامعة الملك سعود. لديها 16 كتابا ما بين الرواية والقصة والقصة القصيرة جدا والقراءات النقدية.