بعض الأحاديث مع النفس تنفض سؤالا وتبعثر حيرة لا نهائية، وبعضها تجعلك تواجه نفسك بنضج دون تعالٍ أو شعور بالدونية، والنضج يأتي من التجربة، وهي التفاعل الحقيقي مع الحياة ولها مجالات كثيرة فهي تشمل أي خبرة ومعرفة يكوّنها الإنسان في علاقات مع الآخر أو الواقع بطريقة مباشرة، كذلك اكتساب مهارة القدرة على التمييز والحكم والاتقان وهذا يعني أن الإنسان لا بد أن يجرب ويكرر ويحاول حتى يصل إلى النتيجة التي يرغبها، فهي تعطينا خطة لنتفادى ما يؤذينا أو يقف بطريقنا مستقبلاً، فحين يتفاعل الإنسان مع ذاته ويؤمن بها، ويؤمن بفكرة أنه يستطيع تغيير نفسه من خلال وعيه، ومن خلال كل ما يدخل وما يخرج من أفكار ورؤى ومعتقدات وإيمانيات هنا يستطيع أن يجسّ نبض نفسه ومن ثم يفهم توجهاته وبالتالي يعي فعلاً ما يريد وماذا يريد أن يكون، فالمستقبل مثل قطار يسير بلا محطات، أنت من تضع محطات حياتك، وأنت من يبنيها ويلونها، أما التجربة في “المجال العلمي” فهي مختلفة لأنها ترتبط بقوانين محددة ومعايير صارمة، وقد تحدثت الفلسفة عن التجربة “حيث إنها وسيلة يلجأ إليها العالم التجريبي لمعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر”، ويذكر غوته “أن المعرفة وحدها لا تكفي، لا بد أن يصاحبها التطبيق”، وقد كان كانط يربط التجربة بمعيار كوني صوري مطابق لمبادئ العقل، أما ديكارت فربط معيار الحقيقة بالبداهة، أما فتجنشتاين فقد ربط معيار الحقيقة بما هو واقعي تجريبي، فلا يمكن أن تكون الأفكار غير قابلة للاختبار، وإذا كانت كذلك فلا يمكن اختبارها وتجريبها، والأكيد أن التجربة تحرك منظومة للكشف عن ملامح كل ما حولك وإدراكها يعطي القدرة على اكتشاف قوانين الحياة، فالحياة العادية تتطلب أيضاً تجريب عوالم متخيلة فهي تسترق السمع لما وراء المستقبل، وتجعل العالم أكبر، فلا يمكن أن نعبر هذا العالم الساخن بتقنيات بسيطة، والعالم المفعم بكل ألوان الصراعات أصبحت التجربة فيه مكونا رئيسا لنسيج الحياة وتجعلنا ننظر للمستقبل بشكل أوضح، فالتجربة تحث على التمرس باحتضان المعرفة وتغليب الصورة والأحاسيس والمشاعر الأولية، وكلما كانت التجربة مرتبطة بأفق الحياة المعرفية كلما كان الإنسان أكثر استشرافا للمستقبل، وأقدر على تمثيل الوعي الإنساني والانخلاع من المسلمات وخوض الواقع.

جريدة الرياض