قمامة كليما …!

تتدفق أفكاري بشكل وفير،  عندما أجرب وجبة جديدة، وعندما يغدر بي النوم فلا أستطيع اجتذابه، أو عندما أكون في الطائرة فأبدأ في تدوين أفكاري المتطايرة، تصيبني الحيرة كثيرا عندما أريد اختيار كتاب أقرؤه، فبعض الكتب و الروايات قراءتها مجهدة، وبعضها يمر كرفيف الحلم، سحبت مرة كتابا من مكتبتي بشكل عشوائي وكانت المصادفة رواية إيفان كليما (حب وقمامة) التي تدور رحاها بين قطبي الحيرة والاغتراب، والأفراد المهمشين والمقهورين حيث أول أمر جذب انتباهي فيما يتعلق بالرواية هي البداية التراجيدية التي بدأ بها كليما حيث القمامة والكناسون وحياة طبقة لا نعرفها، ولم نجهد أنفسنا في التوقف عندها، يقول على لسان البطل مجايل كونديرا ”لا أعرف على وجه التحديد ما الذي جعلني أختار هذه المهنة التي لا جاذبية فيها” حيث الكاتب ”مجايل” يعمل كناسا في شوارع العاصمة التشيكية براغ، ليجرب حياة مختلفة لم يسبر أغوارها قبل ذلك، ففكرة الرواية تدور حول تحوّل كاتب مغترب في أمريكا وبعد أن عمل ستة أشهر مدرّساً جامعياً هناك قرر أن يعود إلى بلده، ويغير وظيفته ويعمل عامل نفايات في بلده في زمن الشيوعية والقمع وانعدام العدالة، كان يعتقد أنه نوع من الواجب أن يعود المرء إلى وطنه بكل قدراته ومهاراته التي اكتسبها هناك، فقد عاش الاغتراب خارج بلده، وعندما عاد اغترب بطريقة أكثر بؤساً، دخل عالم المهمشين برغبته، عاش مع الفقراء واستمع لأنين العاطلين عن العمل، واطلع على المعتقدات التي تعشش في رؤوسهم عندما يفتقدون التعليم الجيد، والأمراض المصاحبة للفقر والجهل، وهنا يذكرنا كليما أنه عندما يدوم الظلم والاضطهاد زمنا طويلا، فمن المحتمل أن يدمر ثقافة ما على نحو كامل، تحتاج الثقافة إلى بيئة صحية تنشأ فيها، البشر لايتمتعون كثيرا بفكر حر، وحياة مكتملة الأركان.

وكليما في هذه الرواية فصل البطل “مجايل” إلى قسمين وزعهما بين الكاتب وعامل النظافة، وهما شخصيتان متناقضتان بكل ما في الكلمة من معنى، كل واحدة لها متطلباتها ونمط تواصلها ورؤاها، حيث يرى كليما أن ما يحدث هو أنه حالما تكون قد أوجدت إحدى الشخصيات وجعلتها تشترك في موقف محدد تكون قد حددت من إمكانياتها، لذلك جعل مجايل يلبس شخصية أخرى ليست هو من أجل أن يثبت لذاته أن هذه المهنة ستعطية شيئاً مختلفاً، ولكنه اكتشف أنه لم يعدو كونه كناسا في الشارع، إنسان غير مهم ولا ينتبه له أحد، ولكنه من خلالها انسلخ من عالم الكاتب الذي سئم منه وانخرط في تجربة جعلته يرى العالم من أسفل الهرم، حيث الشيوعية التي جعلت الناس يعيشون الحياة بحواجز ومحظورات غير منطقية، حيث يرمز الراوي إلى أن كل المحظورات والمعتقدات المصطنعة هي مثل القمامة يجب التخلص منها، وأن كل إنسان له الحق في التجربة، و يرى أن العالم الشيوعي حول الإنسان  إلى قمامة يسهل التخلص منها، هذه الرواية تنجز صورة واضحة للذات، وتعبر عن أفكارها ورؤاها وتبصرها، ولا يمكن كتابة عمل إبداعي مثل حب وقمامة إلا بواسطة مؤلف مبدع وهب نفسه للإبداع، وهنا يختم كليما روايته بهذا الحوار .

تذكر أن الرجل لا يبكي أبدا هكذا جاء صوت والدي من الصمت الذي حولي على غير انتظار .

قلت: لست أبكي، ومن مكان عميق في داخلي جاء صوت ضحكٍ يشبه ضحكة ً كانت تجعلني سعيداً في طفولتي“.

أخبار الأدب

0 0 votes
Article Rating
الإشتراك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x
للأعلى